أحد أبطال أسياد النزال، حسن الحدّاني: عامان من المطاردة والمغامرة

2013-04-24 - 7:02 ص

مرآة البحرين (خاص): في فجر السادس من شهر إبريل/نيسان الجاري اعتقل شابان من قرية الدير هما حسن الحداني ويونس جاسم. كانت عيون المخبرين مكثفة على الشاب حسن الحداني بالذات والمطارد منذ عامين.  

كان ينجح في الهروب من عيون الأمن المترصدة، ويتسلل من بين أيديهم كلما أوشكوا على إمساكه. عامان وحسن ذو25 ربيعا مطارداً ويعيش ظروفا إنسانية قاسية من فرط القلق وقلة النوم والجوع، وصعوبة الحركة والتنقل لكنه يتزود بصموده وعزته ويعتاش على الكرامة رغم التهديدات التي تلاحقه "إذا صدناك ما بنرحمك، ما بتطلع، بنصفي جسدك".  

 (ابتسام صالح) محررة "مرآة البحرين" تلتقي بأهله وتأتينا ببعض حكاياته التي أثارت إعجاب أهل الدير لدرجة مناصرته وتأمين حمايته، هذا غير التفاخر به، لأنه لم ينكسر أو يلين رغم قسوة الظرف الذي يعيشه. 

الزيارة الأولى 
   
في كبينة اللقاء يدخل حسن باسما، واثقا، يفصل بينه وبين أهله طاولة رخامية عاليه تحد من احتضانه، أو بالأحرى تمنعه. تقدم الأب "علي" فرفع حسن يده للسلام فأقبل الأب على يده وانحنى عليها وانهار باكيا فوقع عقاله وغترته. وفي هذه الأثناء يحاول حسن تقبيل رأس والده فنزلت من عينه دمعة. تلتقط أخته خديجة دمعته وتقول : "مو قادر يتكلم غص من الغبن حين سمع نحيب أبي، ظلت يد حسن لفترة تحت جبينه". وأمي تحاول أن تهدهده: "حبيبي قول اللي في خاطرك أنا أتحمل".

 يحاول الأب لملمة دموعه، مهدئا حسن: "لا عليك إبكِ يا ولدي، ولا تتضايق فالسجن للرجال". لكن حسن تبكيه الأحكام الجائرة التي ألصقوها به يقول:" أنا مقهور من الإهانات، أقول لهم جوعان فيبصقوا في فمي، حصلت لي فظائع من التعذيب وكل ذلك في النيابة العامة، فكلما رفضت التوقيع باعترافات باطلة على أصدقائي زادوني ضربا وتعذيبا". وتؤكد أمه :"حسن شخصيته قوية والآن ينهار، هذا ما ذبحنا. لكن ما لنا إلا الله سبحانه وتعالى".


الدير القرية المفتوحة على البحر، تشبه بيتاً كبيراً مشرعاً تنتشر الأخبار في أرجائه في الحال، تقول أم حسن: أمس كانت الزيارة الأولى، الجميع  يسأل عنه ليطمئنوا عليه.  تدخل جارة قريبة منهم تمتدحه بإعجاب: هذا الولد يتحلى بأخلاق عالية وهدوء جم كأنه النسمة. الجميع متأثر باعتقاله. يعقب والده: ذات مرة ضربته لا أذكر لماذا لكنه لم يرد عليّ، لم نرَ منه أذى، ولا مرة غلط عليّ أوعلى والدته.  

أمهات الدير أبواب مفتوحة

تسرد أمه مفارقات قصص المطاردات: في ليلة 13 مارس 2013 كانت القرية في حالة استنفار حيث يزداد نشاط الشباب في ابتكارات العمل السلمي تأهبا لليوم لإضراب الكرامة الثاني 14 مارس.  تزفر تنهيدة: فتحتُ بابي البيت، الباب الرئيسي والآخر جهة المطبخ. هكذا شيم الأبواب في الدير وقت الصعاب.

 سهرتُ تلك الليلة قلقة. نظرت من النافذة حوالى الساعة 12.15 صباحا فرأيت زمرة من المرتزقة. في الحال اتصلت بحسن، أنصحه:"احذر يا ولدي إنهم يفتشون كراجات البيوت". صارت الساعة 12.45 سمعت وقع أرجل تركض وصوت مرتزق يصرخ :" جوّد .. جوّد" !! فزع قلبي على حسن صرت أولول: "أخذوا ولدي .. وش لك طالع ألحين يا حسن؟". انقبض قلبي وأردت أن أتأكد، اتصلت : "ألو حسن".. يأتيني الرد صوت نَفَس فقط .. أسأله بهلع: "هل أنت بخير؟" فيرد: "أنا أوكي أماه". بعد فترة أسمع رنة اتصال لابنتي خديجة توقظها من نومها فأصيخ السمع وهي ترد: "ألو ".. اقتربت منها، عرفت أن المتصل على الطرف الثاني صديقة لها تقول: "قومي .. أخذوا أخوك .. استيقظي. استوعبي؟ .. ألم تستوعبي بعد؟".

لكنني استوعبت قبلها وصرخت باكية بشكل هستيري: "لا أحد يقول لي أخذوه" .. عدت لاتصل بتلك الصديقة: "هل أخذوه .. أكيد .. صدقا"؟ أخذت أبكي من حرقة قلبي لكن بدون دموع .. كيف؟ لا أدري .. استيقظ أبو حسن فقلت له: "أخذوا ولدك" وظللت اضرب روحي. فقال لي : "توقعي ذلك". أرد عليه بإنكار، وبأعلى صوتي: "لا أحد يقول لي توقعي".

يأتي اتصال ثان لخديجة: "سوف يمرون على بيتكم ... شوفوهم". تمنيت لو أستطيع أن أحشد أهالي الفريق لمنع المرتزقة من القبض عليه، لكن كيف والساعة جاوزت الواحدة صباحا. خرجنا من البيت أنا وأبو حسن وخديجة .. انتابتني صدمة لكنها ولّدت لي شجاعة حين رأيت من مكان قريب مجموعة من شرطة الشغب، اتجهت ناحيتهم، لم يمنعوني ولم يشتموني كعادتهم .. ثم انتبهت لوجود سيارة إسعاف سألت الضابط البحريني: "وين ولدي؟ ما تاخذونه الليلة.. جيبوا ولدي" .. سلمت مصدقة أنه بين أيديهم رد الضابط بهدوء:" اسمعي .. اسمعي هو متعور احنا بنساعده وسندخله المستشفى" .. يخطر ببالي كلام حسن: "أفلت روحي وأموت ولا يصيدوني .. الموت أهون منهم".

هددتهم وحلفت " اسمع يا فلان: "ورب اللي خلقني وخلقكم ما تلمسونه ولا تعتقلونه" .. نعم ذكرتُ الضابط بالاسم حيث نعرف منهم ثلاثة بحرينيين، يحومون دائما في الفريق . فعندما ذكرت الاسم رمقني الضابط بنظرة أن اسكتي، لا يسمعوك. لكني كنت غاضبة وأضرب قدمي في الأرض ويدي على الجدار من شدة الانفعال. سمحوا لوالده أن يراه في الإسعاف، ملامح وجهه تغطت من نزف الدم، وكان يئن ويقطع قلبي. قال أبوه : نعم، هذا حسن نفس الطول ونفس اللون. سيارة الإسعاف مشت للوراء تأهبا للمسير.

نعود البيت مكسورين، يرن هاتف خديجة : "ألو أنا حسن ".. فأنهب منها الهاتف لأرد: " حبيبي حسن .. أنت مو في الإسعاف ألحين؟" فيطمئنني: "أماه.. ما بك؟. أنا بخير ما أخذوني". أتساءل: إذاً من هذا الذي قتلت عمري عليه وبكيت عليه، لم أستوعب بعد، قلت إنهم يحاولون أن يهدِّئُني بمسرحية ويستغفلوني. عدت لأسأل أباه: "ماذا كان لابسا؟" قال : "بنطال رصاصي وفانيلة بنية اللون". صرخت: "هذا ليس ولدك. أنا رأيته وقت المغرب لم يكن لابسا هذه الألوان". لكن الخبر طار بأسرع من البرق لكل القرية والناس، "حسن الحداني" اعتقل.  وأسئلة الواتس آب ترن كالمطر، لجنة الدير الإعلامية تريد أن تتحقق أيضا. من كثرة الأسئلة واللغط عدت لشكوكي، لكن في اتصال لحسن قال:" ماما أنا حسن .. والله حسن" هنا اطمأنيت.

أسألها: وهل تتواصلين معه بالهاتف باستمرار؟ ترد: "لا .. وهو عادة يكلمني عن طريق هواتف أخرى، ومن أماكن صاخبة، فعادة أسمع غوغاء وبالكاد أسمعه.

حسين رضا

علمنا فيما بعد أن الأمن داهم الشباب في مخبئهم وكان حسن في الحمام لكن كيف خرج من الحمام وتسلل من بين أيديهم وهرب وكأن الطرق تنفتح له، والدروب تنفرج له لتزيد من وقع الإثارة والمطاردة. في هذا الكمين هرب حسن وآخر يدعى يوسف والثالث وقع على الأرض فأشبعوه ضربا، وكان ذلك الشخص هو (حسين رضا السنابسي) المصاب الذي رأيناه منقولا للإسعاف وهو الآن يرقد في المستشفى إثر اصابات وكسور في رجله ويده وفكه وحوضه .. زارتني والدته في اليوم الثاني من إصابته لتسأل عنه، لأنني أخذت دورها في ذلك المشهد.


البارحة تصيحين واليوم تطلعين
  
في اليوم نفسه خرجت مسيرة الساعة 3.30 مساءً، مرت جنب بيتنا فالتحقت بها أنا وبناتي، فأحاطتني النسوة واحدة تقبل يدي وتهنئني على سلامة حسن، وأخرى تقبل رأسي لأنني أم حسن، ولأن أمس الله "طلعه". 

أفتخر به، وكأن ليس هناك أمّ في الدنيا عندها ولد إلا أنا. حسن جعلني معروفة في القرية، وحتى بين الضباط. بعد انتهاء المسيرة وجدت نفسي في الطريق أمشي وحيدة فلم أنتبه إلا وكتيبة مرتزقة تمشي ورائي، بالكاد نظرت للخلف فرأيت أحدهم يلوح بالهراوة فأرعبني. كان الضابط نفسه الذي اشتبكت معه بالكلام في الليلة الماضية. هو عرفني وصرخ عليّ : "البارحة تصيحين واليوم تطلعين"! 

Spiderman 

تلك الليلة كأنها ليلة الوحشة تسرد (أم حسن) مطاردات الشباب وبطولاتهم بإعجاب وتعاطف كبيرين. تقول: يخرج الثوار في مواجهات مع المرتزقة، انتهت المواجهات باختباء الثوار في بيت ما، مخبأهم الخاص، تجمعوا فيه، كان الشباب يوفرون الحماية والحيطة لحسن  قدر ما يستطيعون، استعلموا أن عيون الوشاة وصلت إليهم، وفعلا داهموهم واعتقلوهم كلهم، أعتقلوا عشرة منهم. 
خرجتُ للشارع حوالى الساعة 12 ليلا أخبروني من رأوا (حسن) أنه كان واقفا على أعلى سطح في أحد البيوت، كانت غرفة درج، ويقفز من سطح لآخر كأنه سبايدرمان Spiderman . وهو يجري ومن حرة الروح كان يصطدم بحبال الغسيل حتى كادت أن تشنقه. قفز من سور سطح إلى سور سطح أعلى قليلا منه، وتدلى عليه والمرتزقة تراقبه ويقول أحدهم: "اضربه .. اضربه .." لكنه خذلهم، تسلق السور وهبط إلى داخل البيت.  
في اليوم الثاني خرجت بدموعي أبحث عمن رأى حسن. أحدهم قال لي "الله طلعه، إصابته خطيرة، طايح من طابقين".  ذهبت إلى البيت الذي آواه.  قالت لي سيدة البيت: أخذته في حضني ووسدته رجليّ، أغدقت عليه كل حناني محاولة أن أخفف من آلامه وأوصيه خيرا حين سمعته يهلوس وجسمه به جروح وخدوش، كان متعبا وكاد أن يموت.أحضرنا له طبيبا أعطاه مصل مهدىء، ولما استعاد حواسه وعافيته سألته: "أنت ولد من"؟ فعرفت أنه ينسب إلينا من جهة الجد".

يقول والده : القرية كلها تفتخر به وتنعته بالبطولة ولكن هذا الأمر بقدر ما هو مدعاة للفخر هو مدعاة للخطر عليه من جهة الأمن، يذكرني بقصة "نهاية رجل شجاع". ثم يتذكر متحسرا : قبل يوم من اعتقاله كان (حسن) معي وانتابني شعور أنه آخر يوم لي معه، قبل الاعتقال، ولاحقا تأسفت كثيرا لأنني لم اغتنم فرصة وجوده معي، فلم أنصحه بما يكفي، ولم أملأ عيني منه.
 
تتذكر والدته قصة من قصص المطاردة. تقول: في احدى المواجهات مع المرتزقة خلت أزقة الحي من الجميع، فقد ابتعلت البيوت جميع الشباب وتفرق العسكر في ملاحقاتهم، فانفرد في الزقاق مرتزق كان يريد أن يصطاد حسن لكن حصل العكس أن حسن هو من اصطاده خصوصا وأن المرتزق وجد نفسه وحيدا بدون حماية رفاقه فمات رعبا، مسكه حسن من قميصه ليقول له:" راوني اش تقدر تسوي فيني يا جبان"؟ ثم تركه وهرب، فشيمة حسن لم تسمح له بانتقام أو أذى. 

زياراته الخاطفة للبيت

والدته تؤكد: هو حريص ويقظ يعرف كيف يحمي نفسه وحين يزورني يتولد لدي شعور أنه بأمان .. لا أدري. سألتها كم مرة يأتي البيت؟ تقول : حسب الأمان. وهل يلبس لثاما حين يزوركم؟  تقول: لا.. يلبسه في المسيرات فقط. لكن يظل بالي مشغولا عليه 24 ساعة، اتساءل: أين ينام؟ هل فراشه مريح؟ هل هو شبعان؟ ذات مرة اتصل بي وكان جائعا جدا، فحضرت له وجبة سريعة أكلها ومضى. يأتي البيت كي يستحم ويبدل ثيابه ويمضي بسرعة .. لا يشكو همومه ولا جروحه،  ذات مرة سقط ظفر إبهامه لوحده أثر تعرضه لشظية شوزن. لا يطلب مصروفا، يخجل من ذل لسؤال، لكن قلب الأم يفطن لحاجاته. في زياراته أحيانا يجلس قليلا معي في المطبخ، يدردش. كم أحب حديثه، أتفاجأ بثقافته في التاريخ في السياسة. آراءه تعجبني وأثمنها. سألته عن رأيه في مغرد يقترح أن يغتنم شباب الدير قرب المطار من القرية وحرقه بالمولوتوف؟. فاستنكر ذلك بشدة: ولماذا لا يفعلها هو بنفسه؟. ثم شدد: أنا لا أتفق مع العنف لأن نتيجته ستكون وبالا علينا، فالقرية كلها سوف تمشط وتدفع الثمن، ويذهب ضحية ذلك ناس أبرياء. نحن ننتهج السلمية، أدواتنا سلمية ودولية معروفة. 

يقطع كلامها رنين هاتفها والسؤال ايضا عن زيارة حسن، فترد وهي تغالب غصة تخنق كلامها : صورته لا تفارق بالي كدت أموت. تمنيته شهيدا ولا أراه بهذا الشكل المعذب. كان يريد قول شيء لكنه يقاوم غبناً يحرص على إخفائه عنا. تغالب هي الأخرى حشرجتها لتكمل: "يقول أخذوني من الرفاع إلى العدلية إلى التحقيقات الى المركز لكن ما أدري ويش بيصير". كل ذلك وهو مقيد اليدين والرأس مغطى بكيس. يومان وهو على هذا الحال.  تقول محاميته (نجلاء علي باقر) إن التحقيقات ردوا عليها: "اطلبي اي واحد إلا هذا، احنا نبغيه".

زوار الفجر  وسؤال "وين حسن؟"

 يقول والده، ويواصل: منذ سن حالة السلامة الوطنية وزوار الفجر يداهموننا باستمرار وينتشرون في كل أرجاء البيت بكل أريحية. تخيلي وأنت نائمة يقف على رأسك
  &&qut2&& 
 ملثم ويصوب البندقية على رأسك. يوقظك من عز نومك بزجرة:" قوم". ثم يهددك إن نطقت كلمة سيضربك بقضيب حديدي في يده؟ وهذا الحال تكرر علينا أكثر من 16 مرة والسؤال واحد: "وين حسن؟" ويأتيهم الجواب نفسه: "ما ندري"، فعلا، لا ندري.

 هكذا عاش حسن هاتين السنتين، يصخب حضوره في البيت والحي لفرط تملصه من أيدي الأمن. ويؤكد: ليس هذا الموقف بجديد عليه، فقد اعتقل حسن ستة أشهر قبل 14 فبراير 2011 لكنه في تلك المرة اختبأ عنهم لفترة قصيرة ثم سلم نفسه، فقد وجهت له تهما ملفقة لكنها بسيطة. وأفرج عنه بُعيد ضربة الدوار الأولى مع بقية المعتقلين السياسيين. 

أسأل والدته: ما الشهادة الأكاديمية التي يملكها حسن؟ توقفت لتتذكر: "والله نسيت، وللعلم في مداهماتهم للبيت مزقوا جميع شهاداته".. ثم تذكرت: حاصل على دبلوم صيانة المصانع، وبقي أربع سنين بدون عمل. الولد متفوق ودرجاته ممتازة، حرام أن تهدر هذه الطاقات الشابة بهذا الشكل، لكن الله كريم. 

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus